الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وإذا كان هذا معنى اللفظة، ففي الآية حجة على المعتزلة القائلين إن الضلال إنما هو من العبد. وقالت فرقة معنى قوله: {يغويكم}: يهلككم، والغوى المرض والهلاك؛ وفي لغة طيِّئ: أصبح فلان غاوياً، أي مريضاً، والغوى بشم الفصيل، قال يعقوب في الإصلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعاً، قاله الفراء وحكاه الطبري. يقال غوى يغوى، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125] ونحوها.قال القاضي أبو محمد: ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقاً وحجة بالغة بهذا التأويل، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب.وقوله: {هو ربكم}، تنبيه على المعرفة بالخالق. وقوله: {وإليه ترجعون} إخبار في ضمنه وعيد وتخويف، وقوله تعالى: {أم يقولون افتراه...} الآية، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير: إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وذلك أنهم قالوا: افترى القرآن وافترى هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك.قال القاضي أبو محمد: وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، ويبقى اتساق الآية مطرداً، ويكون الضمير في قوله: {افتراه} عائداً إلى العذاب الذي توعدهم به أو على حميع أخباره، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى: أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك؛ ثم يطرد باقي الآية على هذا.و{أم} هي التي بمعنى بل يقولون، والإجرام مصدر أجرم يجرم إذا جنى، يقال: جرم وأجرم بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر:
حارة: موضع.قال القاضي أبو محمد: وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها، قال ابن عباس وغيره، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض، ما كان ذلك، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «أوتيت خمساً لم يؤتهن أحد قبلي» فلابد أن نقرر كثيراً من الأمم كان في ذلك الوقت، وإذا كان ذلك، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحاً هو أول الرسل إلى أهل الأرض؛ ولا يمكن أيضاً أن نقول: عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15].والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول: إن نوحاً عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس- بحسب ما ثبت في الحديث- ثم نقول: إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم، فتصح الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم نقول: إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم، وكان الشرع- ببعث نوح- موجوداً مستقراً.فقد وجب عليهم النظر، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه: فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]، أي حتى نوجده، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء؛ ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم.ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات، والله الموفق للصواب.وقوله تعالى: {واصنع الفلك} عطف على قوله: {فلا تبتئس} و{الفلك}: السفينة، وجمعها أيضاً فلك، وليس هو لفظاً للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد، جاز أن يجمع فعل على فعل، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول: فلك وفلكان وفلك، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت يا منصو، تريد يا منصور، فرخمت على لغة من يقول: يا حار بالضم، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل، وليست بها في الحكم.وقوله: {بأعيننا} يمكن- فيما يتأول- أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى: {فنعم القادرون} [المرسلات: 23] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله: {لتصنع على عيني} [طه: 39]، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره. ويحتمل قوله: {بأعيننا} أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا للتكثير.وقرأ طلحة بن مصرف {بأعينا} مدغماً.وقوله: {ووحينا} معناه: وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك أن نوحاً عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه: أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها، فقد روي أيضاً أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر: لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكاً بل كانت وعاء فقط، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر، وفي الحديث: كان راز سفينة نوح عليه السلام جبريل عليه السلام والراز: القيم بعمل السفن. ومن فسر قوله: {ووحينا} أي بأمرنا لك، فذلك ضعيف لأن قوله: {واصنع الفلك} مغن عن ذلك. و{الذين ظلموا} هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة، قال ابن جريج: وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم.
وهكذا يأخذ العدديون: الزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} [ق: 7] وقوله: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها} [يس: 36] إلى غير ذلك.وروي في قصص هذه الآية أن نوحاً عليه السلام كان يأتيه الحيوان، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وروي أن أول ما أدخل في السفينة الذر، وآخر ما أدخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه، فزجره نوح عليه السلام فلم ينبعث فقال له: ادخل ولو كان معك الشيطان، قال ابن عباس: زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ، وكان في كوثل السفينة، أي عند مؤخرها، وقيل كان على ظهرها.وروي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه: أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل- وقيل من أنفه- خنزير وخنزيرة، فكفيا نوحاً وأهله ذلك الأذى؛ وهذا يجيء منه أن نوع الخنازير لم يكن قبل ذلك. وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك، فأمر الله نوحاً أن يمسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هر وهرة، فكفياهم الفأر، وروي أيضاً أن الفار خرج من أنف الخنزير.قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم فكيف كان.وقوله: {وأهلك} عطف على ما عمل فيه {احمل} والأهل هنا القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفاً؛ ثم ذكر {من آمن} وليس من الأهل واختلف في الذي {سبق عليه القول} فقيل: هو ابنه يام، وقال النقاش: اسمه كنعان؛ وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة؛ وقيل: هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته. و{القول} هاهنا معناه: القول بأنه يعذب، وقوله: {ومن آمن} عطف على قوله: {وأهلك} ثم قال إخباراً عن حالهم {وما آمن معه إلا قليل} واختلف في ذلك {القليل} فقيل: كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين: وقيل كانوا ثمانين في الكل، قاله السدي: وقيل: عشرة؛ وقيل: ثمانية، قاله قتادة وقيل: سبعة؛ والله أعلم. وقيل: كان في السفينة جرهم، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق، وكان في السفينة مع نوح عليه السلام ثلاثة من بنيه سام، وحام، ويافث، وغرق يام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش».
|